لا شيء ينعش الحياة السياسية مثل حراك قواها الوطنية والمبادرات الوطنية الخلاقة التي تشب فوق الطوق التقليدي للثقافة السياسية القائمة، وقد تندرج مبادرة الشيخ حسين الأحمر تحت إطار الجهود الوطنية الرامية إلى زحزحة الأزمة السياسية وإنعاش الحياة الديمقراطية, إلا أنها انزلقت إلى نفس مربع إنتاج الأزمة بما تضمنته من أخطاء فادحة.
الخطأ الأول- يكمن في إعلان الشيخ حسين أن مجلس التضامن سيقاطع الانتخابات إن أصرّ المؤتمر على المضي بها منفرداً، وكان الأولى به تأجيل ذلك ريثما سماع ردود فعل المؤتمر على المبادرة، لكون المقاطعة تمثل ورقة ضغط المشترك المعلنة، ومن الخطأ الفادح للمجلس- الذي يعد مؤسسة مجتمع مدني- أن يكون له موقف سياسي مسبق! أما إذا اعتبر المجلس ككيان سياسي فمن الخطأ أيضاً الخروج عن الحيادية، كوسيط، والانحياز إلى موقف أحد الفريقين المختلفين.. فالوسيط لا يبدأ بالتهديد، لأن وظيفته التحاور بشأن المقترحات التي يحملها، ومتى ما رأى طرفاً عنيداً بوسعه حينئذ التلويح بورقة المقاطعة من باب الضغط !!
الخطأ الثاني- يكمن في دعوته إلى الاعتراف بما يسمى "القضية الجنوبية", ودعوة قادة الحراك في الداخل والخارج إلى التحاور.. ويبدو أن الشيخ حسين غير مُلم بمعنى (الاعتراف بالقضية الجنوبية) لكونه وصف أصحاب هذه الدعوة بالوحدويين, في نفس الوقت الذي دعا السلطة إلى الاعتراف بوجود كيان شطري له من يمثله من القادة الذين يجب التفاوض معهم.
وكأن "باعوم" و"الخبجي" و"شلال" وغيرهما يمثلون نائب الرئيس ورئيس الوزراء وآلاف المسئولين في الدولة من أبناء المحافظات الجنوبية وملايين المواطنين الوحدويين.. فلا يوجد أي حق دستوري ولا قانوني ولا ديمقراطي ولا حتى قبلي منح العناصر الداعية للانفصال صفة تمثيل الجنوب.
فالسياسة ليست عواطف، وإلا لادّعى الحوثيون تمثيلهم أبناء المذهب الزيدي، ومثلما يفرض (البيض) وصايته استناداً إلى سنوات حكمه الأربع, فإن الحوثيين يستندون إلى القرون التي حكم بها الأئمة المحافظات الشمالية, ومن غير المستبعد أن يطالب يهود منطقة "ريدة" بالاعتراف بهم ككيان سياسي باعتبار أن أجدادهم حكموا اليمن قبل الإسلام, فأي تصنيف مناطقي أو مذهبي يعني تشريعاً للانفصال وإطلاق أبواب تمزيق اليمن.
الخطأ الثالث- هو الدعوة إلى التوافق على مشروع دستور جديد, مع أن هذا من اختصاص السلطة التشريعية, ولا يحق لأي حزب أو تنظيم- حاكم أو معارض- إلغاء مهام مؤسسة البرلمان القائمة بموجب الدستور وإخضاع التشريعات للمزاجات الحزبية.. فالأحزاب لا تمثل الشعب وإنما تمثل نفسها، وأن نسبة المتحزبين من اليمنيين لا تتجاوز 25% فقط، وبالتالي فإن هناك حقوقاً دستورية لـ75% من اليمنيين لا يجوز إباحتها للأحزاب.. فمفهوم الدولة يعني مجموعة مؤسسات تتولى إدارة شؤون البلد، ومتى ما جردناها من مؤسساتها تفقد صفتها كدولة.
الخطأ الرابع- هو أن مجلس التضامن دعا إلى تأجيل الانتخابات لمدة عام لإتاحة الفرصة للحوار والتوافق, إلا أنه تجاهل استلهام العبرة من تجربة التمديد السابقة التي استنزفت الوقت دون أي جدوى، بل وضعت البلد أمام خطر الوقوع بفراغ دستوري.. وبالتالي كان الأحرى بالمجلس إضافة استدراك أنه في حال عدم التوصل لاتفاق خلال مدة العام تجرى الانتخابات تحت إشراف لجنة القضاة كحق دستوري للشعب حتى لو قاطعتها الأحزاب.. وإلاّ فإن احتمال تكرار الخطأ كبير جداً.
الخطأ الخامس- هو المطالبة بإيقاف الحملات الأمنية وإطلاق السجناء (غير المدانين) في المناطق الجنوبية.. وهنا نلاحظ أولاً تجاهلاً كاملاً لأي ذكر للحوثيين في كل ما ورد بالمبادرة, وكان الأجدر عدم التمييز على خلفية مواقف شخصية أو فئوية متصلة بالموقف المعلن لقبيلة "حاشد" من الحوثيين.. وثانياً لم تذكر المبادرة البديل للحملات الأمنية في معالجة الانفلات الأمني والتقطع والنهب والتخريب والقتل على الهوية الذي يمارسه الحراك، والذي نستبعد أن المجلس لم يسمع بما حدث ويحدث لحد الآن..!!
وكان يفترض إقران المقترح بضمانات تكفل للدولة أن يكف الحراك عن التخريب والاعتداءات الجنائية، كونها مسئولة دستورياً على حماية أمن المواطنين واستقرار البلد. ومن جهة أخرى فأن موضوع الحملات الأمنية من صلاحية البرلمان مساءلة الأجهزة الأمنية عنها ولا دخل للأحزاب فيها إطلاقاً إلاّ عبر ممثليها في مجلس النواب. كما أن موضوع السجناء لما كان ينبغي التدخل فيه, لأن استقلالية القضاء يجب أن يكون مطلب المعارضة نفسها كضرورة لتحقيق العدالة..
ولعل ما يثير دهشة عظيمة في المبادرات المقترحة والبيانات السياسية التي يجري طرحها منذ نحو ثلاثة أعوام هو أنها جميعاً لم تتطرق أبداً لموضوع معالجة أوضاع أبناء المحافظات الشمالية الذين أحرقت محلاتهم وبيوتهم أو نهبت على أيدي الحراك، وتم تشريدهم قسرياً من المناطق الجنوبية التي كانوا فيها، وعدد كبير منهم تعرض لاعتداءات بعضها تسبب بإعاقات جسدية، كذلك من تم تدمير ممتلكاتهم أو نهب أموالهم، فضلاً عن المصابين والقتلى الذين ما زالت جثث بعضهم في ثلاجات المستشفيات.. أليس هؤلاء مواطنين يمنيين!؟
إن جميع القوى السياسية تعلم جيداً أن أعداد هؤلاء بالآلاف وليسوا عشرات، وأن السلطات المحلية بالمحافظات الساخنة دفعت تعويضات للعناصر التخريبية، بمن فيهم الذين أصيبوا باشتباكات مسلحة خلال عدوانهم على مقرات حكومية، فيما تم استثناء من تحدثنا عنهم، ولم تلتفت إليهم أي قوى سياسية أو مدنية حتى بكلمة مواساة ضمن بياناتها.. وكأن الجميع نسي أن الشرارة الأولى للحراك الانفصالي كانت على خلفية تظلمات ومطالب حقوقية، ولا ينبغي أن تكون أي معالجات للأوضاع اليمنية على حساب تجاهل فئة أخرى، لأن هذه الفئة ستجد ذات يوم من يدفع بها إلى الشارع ويستثمرها سياسياً..
وأخيراً فإن مبادرة مجلس التضامن الوطني كانت في أغلبها نسخة طبق الأصل لبيانات حزبية سابقة.. وكان أغرب ما فيها هو الموقف من الحوثيين إلى الدرجة التي لم تشملهم المبادرة حتى بالدعوة إلى طاولة الحوار أسوة بانفصاليي الداخل والخارج..!!