(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )
قال الله تعالى: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:64] فإن الله سبحانه وتعالى أنعم على عباده بنعم كثيرة، ومنها نعمة البصر التي لا يعرف قدرها إلا من حُرمها.. فيعيش في ظلمة؛ لأنه لا يستطيع الإبصار، ولذلك جعل الله الثواب الجزيل لمن فقد تلك الحاسة واحتسب، كما جاء في الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من أخذ الله حبيبتيه فصبر فله الجنة".رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. كما جاء في حديث رواه البخاري والترمذي وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل قال: إذا أخذت كريمتي عبدي ـ وفي رواية حبيبتي عبدي ـ فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة ))
وقد كان من دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا..".
ولأهمية غض البصر وحفظ الجوارح كان درسنا اليوم وفيه عشر مسائل:
المسألة الأولى: وصية ابن الجوزي. المسألة الثانية: النظر وخطورته. المسألة الثالثة: التوبة والنظر. المسألة الرابعة: أحاديث وأثار في فتنة النظر. المسألة الخامسة: حكم النظر. المسألة السادسة: أسباب إطلاق البصر. المسألة السابعة: عقوبات النظر إلى المحرمات. المسألة الثامنة: فوائد غض البصر. المسألة التاسعة: الوسائل المعينة على غض البصر.المسألة العاشرة: صور مشرقة عن السلف الصالح.
1- يقول ابن الجوزي:
"فتفهم يا أخي ما أوصيك به.. إنما بصرك نعمة من الله عليك؛ فلا تعصه بنعمة وعامله بغضه عن الحرام تربح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة، وكل زمن الجهاد في الغض لحظة؛ فإن فعلت، فعلت الخير الجزيل وسلمت من الشر الطويل" اهـ.
فهذه النعمة حينما يحفظها الإنسان ويصونها وينظر بها إلى ما أباح الله يكون قد أدى شكر هذه النعمة، لكن حينما يفعل العكس فإنه قد جحد هذه النعمة.
وأخبر عز وجل أنه خبير بما يصنعه الناس، وأنه لا يخفى عليه خافية، وفي ذلك تحذير للمؤمن من ركوب ما حرم الله عليه، والإعراض عما شرع الله له، وتذكير له بأن الله سبحانه يراه ويعلم أفعاله الطيبة وغيرها. كما قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يُخْبِر عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِلْمه التَّامّ الْمُحِيط بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء جَلِيلهَا وَحَقِيرهَا صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا دَقِيقهَا وَلَطِيفهَا لِيَحْذَرَ النَّاس عِلْمه فِيهِمْ فَيَسْتَحْيُوا مِنْ اللَّه تَعَالَى حَقّ الْحَيَاء وَيَتَّقُوهُ حَقّ تَقْوَاهُ وَيُرَاقِبُوهُ مُرَاقَبَة مَنْ يَعْلَم أَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَم الْعَيْن الْخَائِنَة وَإِنْ أَبْدَتْ أَمَانَة وَيَعْلَم مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ خَبَايَا الصُّدُور مِنْ الضَّمَائِر وَالسَّرَائِر.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: َقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الرَّجُل يَكُون جَالِسًا مَعَ الْقَوْم فَتَمُرُّ الْمَرْأَة فَيُسَارِقُهُمْ النَّظَر إِلَيْهَا.
وَعَنْهُ : هُوَ الرَّجُل يَنْظُر إِلَى الْمَرْأَة فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ أَصْحَابه غَضَّ بَصَره , فَإِذَا رَأَى مِنْهُمْ غَفْلَة تَدَسَّسَ بِالنَّظَرِ , فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ أَصْحَابه غَضَّ بَصَرَهُ , وَقَدْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ أَنَّهُ يَوَدُّ لَوْ نَظَرَ إِلَى عَوْرَتهَا.
وحتى لا يظن النساء أن غض البصر مأمور به الرجال فقط دون النساء وأن للنساء النظر كيفما شئن وعلى من شئن قال الله عز وجل بعد أن ذكر أمره للرجال بوجوب غض البصر قال عز من قائل: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ...)
وَقَالَ مُجَاهِد: هِيَ مُسَارَقَة نَظَرِ الْأَعْيُن إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ الْهَمْزَة بِعَيْنِهِ وَإِغْمَاضه فِيمَا لَا يُحِبُّ اللَّه تَعَالَى .
وغض البصر عبادة توجب رضا الله تعالى وترفع سخطه وعذابه يوم القيامة، فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله)) أخرجه أحمد والنسائي والدارمي في سننه.
فهذه العين التي امتنعت عن النظر فيما يجلب سخط الله لا تبكي يوم تبكي العيون من شدة الأهوال في يوم القيامة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في سبيل الله، وعين خرج منها مثل رأس الذباب (أي دمعت العين قليلا) من خشية الله)).
وإذا علمنا ذلك فما معنى غض البصر:
الغض لغة: كفه وخفضه، يقال غض الطرف: خفضه استحياء وخزيا.
البصر لغة: قال الجوهريّ: "البصر: حاسة الرؤية، وأبصرت الشيء رأيته، والبصير خلاف الضرير
غض البصر: هو أن يُغمِضَ المسلم بصره عمَّا حُرِّم عليه، ولا ينظر إلا لما أبيح له النظر إليه.
-وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "إذا مرَّت بك امرأة فَغَمِّضْ عينيك حتى تُجَاوِزَك".
2- النظر وخطورته:
إن الإسلام لا يرضى عن الفواحش، وينهى عن قربانها فضلا عن إتيانها، وهو يحرم الوسائل ويسد الأبواب التي تؤدي إليها كتحريمه الجلوس على مائدة أو في مجلس يدار فيها الخمر، وكتحريمه النظر فهو يؤدي إلى اقتراف الزنا وفساد القلب، فكل وسيلة تؤدي إلى محرم أو منهي عنه محرم في الشريعة الإسلامية.
كما أن النظر بريد الزنا وداع من دواعيه ومقدمة من مقدماته بل إن النظر بحد ذاته يسمى زنا جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستمـاع، واللسـان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه )). وهذا محمول على ما إذا كان الصادر عن هذه الحواس في معصية الله.
- والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حذر من النظر، في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يا علي، اتق النظرة بعد النظرة، فإنها سهم مسموم يورث الشهوة في القلب".
- عن بريدة مرفوعاً :" يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ".
الترمذي و قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب أحمد وأبو داود وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .
- وروى الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه."
- وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "نظر الرجل إلى محاسن امرأة سهم مسموم من سهام إبليس"
ولهذا قالوا: النواظر صوارم مشهورة، فأغمدها في غمد الغض والحياء من نظر المولى، وإلا جرحك بها عدو الهوى.
ولما كان مبدأ ذلك –أي الزنا-من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج، فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة.. ثم خطرة.. ثم خطوة.. ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات..
-قال ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعا.
- قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان من الرجل في ثلاثة منازل: في بصره، وقلبه، وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة منازل: في بصرها، وقلبها، وعجزها
_وقال عيسى ابن مريم: النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة.
وقال معروف: غضوا أبصاركم ولو عن شاة أنثى!!
وقال ذو النون: اللحظات تورث الحسرات؟ أولها أسف، واخرها تلف، فمن طاوع طرفه تابع حتفه.
وقد ذكر الإمام ابن كثير – رحمه الله – في تاريخه أن رجلاً يدعى "عبده بن عبد الرحيم" كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات ـ والمسلمون محاصرون بلدٍ من بلاد الروم ـ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصل إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ. فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة.
فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان، ما فعل قرآنك؟ ما فعل عملك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآن كله إلا قوله
رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِين* ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الحجر: 2-3]. وقد صار لي فيه مال وولد.
فهذا الشقي انتكس بسبب شهوة أدت إليها نظرة محرمة.
فالعفة تكون بغض الطرف وحفظ النفس.