ان كان الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود قد قال ناصحاً أبناءه: خيركم وشركم يأتي من اليمن، فإن العكس -على الصعيدين النظري والعملي- يبدو أكثر عمقاً وإقتراباً من الواقع الماثل، إذ ان الخير والشر بالنسبة لليمن، يأتيان دوماً من مملكة آل سعود. المفهوم العكسي لنصيحة مؤسس الدولة السعودية الثالثة، المتمثل في مجيء خير اليمن وشرها من السعودية -بالنظر لوقائع شتى- يعد اكثر صواباً من المقولة الأصلية ذاتها.
فعلى مدى العقود التالية للثورتين السبتمبرية والأكتوبرية، لم تتسبب اليمن في إيذاء السعودية، العكس يبدو اكثر جلاءً ووضوحاً، إذ ما انفكت اليمن -طيلة تلك العقود الزمنية- تتلقى صنوفاً من الإيذاء السعودي الممنهج الذي غالباً ما يستهدف إغتيال تطلعات اليمنيين في إنشاء دولة الحرية والعدالة والمساواة.
تعميق الصراعات اليمنية البينية، تقويض المشاريع الحداثية التقدمية لصالح المشاريع التقليدية الرجعية، شراء الولاءات، تصدير الدعوة الوهابية، عناوين مختصرة لسياسات سعودية كانت ومازالت وستظل، تستهدف أي نزوع يمني يتغيا إنشاء دولة تقدمية حديثة.
في شأن التعاطي مع اليمن، لم يبارح العقل السعودي مرحلة البدائية والجنينية، فرغم ان اتفاقية جدة قد عمدت السيادة السعودية على اقليم عسير اليمني بإمتداداته النجرانية والجيزانية، وبددت المخاوف السعودية من تجدد النزاع الحدودي، إلا انها -على مايبدو- لم تفلح في لجم سياسات الايذاء السعودية التي ما انفكت تعيد انتاج ذاتها بنسق تسلسلي يترجم بدائية التفكير.
يمكن للسعوديين كملوك وأمراء وأسرة مالكة، ان يختلفوا وتتباين رؤاهم وتوجهاتهم إزاء كل ملفات الحكم والدولة، غير ان خلافهم لايمكن ان يطال السياسات السعودية الثابتة إزاء اليمن..! إنها ببساطة سياسات بروتوكولية مقدسة لا تخضع لممكنات التغيير ولا يمكن المساس بها حتى وان تبدلت الوجوة وتعاقبت الأجيال.
بروتوكولات حكماء السعودية في التعاطي مع الشؤون اليمنية، جسدت الجذر التأسيسي لنشوء ما بات يعرف بـ(اللجنة الخاصة) المعنية بإدارة الملف اليمني، إذ حرص السعوديون على تضمين سياسات الإيذاء كنظام داخلي يحدد بدقة ماهية الاساليب والمسارات الأكثر تفضيلاً في إدارة اللجنة الخاصة للشؤون اليمنية.
التحولات الطارئة على هذه اللجنة لعقود خلت، لم تقف عند حد جعلها وزارةً اساسية في مجلس الوزراء السعودي، إذ جعلت منها مرجعيةً ارشادية لأي جيل جديد من الأمراء والمسؤولين السعوديين بصورة تضمن عدم خروجهم على تلك السياسات الثابتة والمقدسة إزاء اليمن شعباً وحكومة.
محاولات عبثية للتغيير خلال آنف المراحل، بدا ان ثمة تركيزاً رئاسياً يمنياً على ملف العلاقات مع السعودية، بهدف تخليق عوامل ومسببات تساعد على احداث تغييرات جذرية في بروتوكولات وطرائق التعاطي السعودي مع اليمن.
الحرص على تطابق الرؤى اليمنية مع الرؤى السعودية إزاء القضايا العربية والدولية، التواصل الدائم بين القصرين الجمهوري والملكي، تعزيز العلاقة الشخصية بين الملك والرئيس، مانشيتات عريضة لتحركات يمنية طالتها يد الاخفاق في احداث التغييرات المنشودة.
كان واضحاً بالنسبة للرئيس علي عبدالله صالح، ان إنفاذ التغييرات من عنق زجاجة القداسة البروتوكولية، هدف لا يمكن تحقيقه عبر بوابة العلاقات التقليدية والتحركات العادية. وهو أمر جعله يمحص ويدقق بحثاً عن أوراق استثنائية تعاضد الجهود الرسمية والتحركات التقليدية.
رغم وضوح التباينات الناشئة بين الملك السعودي وولي عهده، إلا ان صالح -على ما يبدو- لم يتمكن خلال تلك المراحل من توظيف هذا التباين لخدمة الأهداف السلطوية اليمنية التي ترنو الى تغيير النمط الايذائي في السياسات السعودية تجاه اليمن.
بداية التدخل الرئاسي في الصراع مع ظهور مشروع الجدار العازل على الحدود الذي أمر ببنائه الامير سلطان بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة، بهدف تأمين الحدود مما بات يعرف بـ(المتسللين اليمنيين)، وجد صالح ورقةً ذهبية تمنحه إمتياز الخوض المباشر في معمة التباينات بين الملك وولي عهده.
يومها إعتلى الرئيس سلم طائرته الإيرباص، متجهاً صوب أجواء الرياض بجعبة مليئة بالاجندة، ليحل ضيفاً على الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
استطاع الرئيس يومها ان ينتزع قراراً ملكياً قضى بإلغاء مشروع الجدار الاسمنتي واستبداله بالأسلاك الشائكة، وهو ما عده البعض -آنذاك- ضربة للأمير سلطان ولسياسات لجنته الخاصة تجاه اليمن.
لقد كان هذا اليوم بمثابة التدشين الحقيقي والرسمي لتدخلات وبصمات رئاسية مالبثت ان تتالت بنسق تتابعي في العلاقات الشائكة بين أجنحة الحكم السعودية المتصارعة.
نزع الثقة بين نائف وسلطان ليس ثمة ما يمكن تأكيده على نحو قطعي فيما يتعلق بالتدخلات الرئاسية في صراعات الاجنحة السعودية، غير ان روابط الاقتران بين الاحداث والتطورات، لا تنفك تؤكد على وجود تدخلات يمنية من نوع ما، تمت بهدف تعميق تلك الصراعات وتوظيفها على نحو يساعد في تغيير بعض السياسات البروتوكولية إزاء اليمن. بالاستناد إلى المؤشرات الناتجة عن روابط الاقتران، يمكن القول ان الرئيس لعب أدواراً محورية في إعادة تشكيل الاصطفافات داخل الكتلتين الحاكمتين، كتلة الحرس الوطني ممثلةً بالملك من جهة، وكتلة الجيش والأمن ممثلة بالشقيقين نائف وسلطان من جهة أخرى.
نصائح الرئيس للملك، قضت باعتماد تكتيك مغاير يستهدف فصم عرى العلاقات التحالفية التي تربط أطراف كتلة الجيش والأمن والمخابرات برموزها الثلاثة سلطان ونائف ومقرن، تحقيقاً لغايتين اساسيتين، أولهما: تعزيز جبهة الملك وإخراجها من دائرة الحصار الثلاثي وجعلها الكتلة الاكبر، وثانيهما وهي نتيجة منطقية للأولى: إحكام قبضة الملك على مقاليد الأمور.
مضمون التكتيك كان يقضي بمنح الحرية للأمير سلطان في اختيار من يريده لشغل موقع الرجل الثالث في الدولة (النائب الثاني) وهو بالمناسبة ذات المنصب الذي دلف منه الامير سلطان صوب ولاية العهد.
ولما كان الأمير نائف بن عبدالعزيز بإعتباره الأقرب لشقيقه الامير سلطان، يتطلع للوصول إلى هذا الموقع الحساس، فقد كان واثقاً إلى حد ما بأن الاختيار السلطاني سيقع عليه كمرشح لمنصب النائب الثاني.
صدمة الأمير نائف كانت بالغة لحظة علمه بهوية المرشح السلطاني لهذا المنصب الذي يعد بمثابة البوابة الحقيقية للإرتقاء الى ولاية العهد وبلوغ اعتاب المُلك في مرحلة لاحقة.
لقد وقع اختيار سلطان على الأمير سلمان بن عبدالعزيز حاكم الرياض وأحد أبرز المراجع في الأسرة المالكة، ليكون مرشحاً وحيداً لمنصب النائب الثاني.
توسع كتلة الحرس وانكماش كتلة الجيش بدا واضحاً ان تصدعاً ما قد اصاب العلاقة التحالفية المتينة بين الشقيقين نائف وسلطان على خلفية هذا الترشيح المفاجئ.
ظن سلطان انه بهذا قد قطع الطريق على تطلعات الأمير محمد بن نائف مساعد وزير الداخلية (نجل الأمير نائف) في منافسة الأمير خالد بن سلطان مساعد وزير الدفاع (نجل الأمير سلطان) على عرش المملكة خلال العقدين القادمين. غير ان الملك كان له رأي آخر باعتراضه على ترشيح الأمير سلمان، وهو اعتراض ما لبث ان تحول إلى قرار ملكي أحادي قضى بتعيين الأمير نائف بن عبدالعزيز كنائب ثان للملك.
لقد حقق التكتيك -بهذه الخطوة- هدفه الأسمى المتجسد في إعادة توزيع خارطة التمثيل في الكتلتين المتصادمتين، إذ توسعت كتلة الحرس الوطني بإنضواء نائف ومقرن بن عبدالعزيز (الأمن والاستخبارات)، وانكمشت كتلة الجيش التقليدي (وزارة الدفاع) التي أضحت أقلية سلطانية في مواجهة الأكثرية الملكية..!
بإعادة تشكيل الخارطة النفوذية، لم يعد الأمير سلطان هو المتصرف الحقيقي في شؤون الحكم والدولة، إذ غدا الملك متمتعاً بسلطات شبة مطلقة مكنته من انفاذ قرارات وسياسات لم يكن في وسعه تنفيذها إبان تزعم سلطان لكتلة الأكثرية النفوذية.
هنا لا مناص من الاشارة إلى الالتقاء العجيب في الاهداف المشتركة للملك السعودي والرئيس اليمني، فكلاهما يتشاطران التباين مع الامير سلطان، وكلاهما يريدان اخضاع نفوذه لطائلة التقليص وهو ما تحقق فعلاً!
الاعتكاف كإجراء وقائي الهدنة الافتراضية الناشئة على خلفية إعادة توزيع الخارطة النفوذية بين الكتلتين، لم تدم طويلاً، إذ أسند الملك عدداً من صلاحيات الأمير سلطان بوصفه ولياً للعهد، إلى النائب الثاني.
لتتتالى بذلك إجراءات تقليص نفوذ الامير سلطان، عبر اسناد بعض الملفات الخارجية ومنها (اللجنة الخاصة) إلى الامير نائف.
لقد جسدت اجراءات التقليص -بالنسبة للامير سلطان- قرعاً صاخباً لأجراس الانذار، ومؤشراً عالياً يستوجب تحركاً دفاعياً موازياً، وهو ماحدث. إذ وافق الامير سلطان على اقتراحات كان نجله الأمير بندر (سفير المملكة السابق في واشنطن) قد قدمها تقضي بإنشاء جهاز استخباراتي جديد في السعودية تحت مسمى جهاز الامن القومي السعودي على ان يحظى بدعم الاميركان ورعايتهم الكاملة. كان الامير سلطان يهدف من هذه الموافقة الى تعديل الخارطة النفوذية وتعويض الفراغ الذي احدثه انضواء جهاز المخابرات التقليدي السعودي في كتلة الملك.
الرد الملكي على هذه الخطوة جاء سريعاً ومفاجئاً، حيث اسند الملك ملف الشام إلى نجله عبدالعزيز، وهو القرار الذي اعتبره البعض بمثابة القشة التي قسمت ظهر التكتم على الخلافات، لتنتقل بذلك الخلافات والتباينات من كواليس القصور الملكية والاميرية الى فضاءات العلنية إثر مغادرة الأمير سلطان برفقه شقيقه الامير سلمان إلى الولايات المتحدة الاميركية بذريعة العلاج قبل ان ينتقل إلى مدينة اغادير المغربية التي قضى فيها عاماً كاملاً من الاعتكاف بحجة استكمال فترة النقاهة العلاجية. ثمة مزاعم تشير إلى ان قرار المغادة لم يكن سوى اجراء وقائي من جانب سلطان لتفادي نقل الصراع إلى المستوى الدامي بالتوازي مع الحفاظ على ما تبقى له من تركة نفوذيه تتمثل في وزارة الدفاع وبعض الوزارات والملفات الأخرى.
بندر تحت الاقامة الجبرية ورغم ان التوقعات حينها، كانت تفترض حدوث تهدئة وتجميد لإجراءات التقليص، إلا ان الاوضاع الناشئة عن بدء تدشين جهاز الأمن القومي لأعماله بقيادة الامير بندر بن سلطان حالت دون حدوث تلك التهدئة.
جولة الصراع الجديدة، تلخصت في ترتيبات جرى اعدادها بين وزارة الداخلية التي يديرها الامير نائف بوصفه وزيراً للداخلية، وجهاز المخابرات التقليدي الذي يديره الامير مقرن، بغرض إجهاض وتصفيه جهاز الاستخبارات الناشئ بدعم الاميركان المسمى (جهاز الامن القومي السعودي). حيث جرى اعتقال 250 ضابطاً -حسب بعض المواقع الالكترونية- هم عبارة عن النواة الأولى والرئيسية للجهاز الجديد بينما تم السماح للأمير بندر بمغادرة الاراضي السعودية إلى دولة قطر وسط شائعات ترجح وجوده في سجون الاستخبارات السعودية التقليدية بتهمة التدبير لمحاولة انقلابية.. وحسب موقع إسلام تايمز، فإن الأمير بندر بن سلطان موجود قيد الإقامة الجبرية في المملكة على خلفية تورطه في محاولة انقلابية ضد الملك عبدالله بن عبدالعزيز جرى إعدادها بمشاركة النواة الأولى في جهاز الأمن القومي السعودي بالتعاون مع ضباط في الاستخبارات العسكرية السعودية وقادة في سلاح الطيران السعودي.
بتصفيه هذه الجهاز، لم يبق للأمير سلطان -من تركة النفوذ والسلطة- سوى حصنه المنيع وخطه الدفاعي الأخير المتمثل في القوات المسلحة السعودية ووزارة الدفاع التي يديرها نجله خالد بوصفه مساعداً لوزير الدفاع.
عودة انقاذية واستقبال اسطوري قيل ان تكتيكاً ثلاثي الأبعاد جرى اعداده بين الرئيس والملك والنائب الثاني، قضى بجرجرة جيش الامير سلطان (الجيش السعودي التقليدي) إلى مواجهة مفتوحة مع الحوثيين لتحقيق غرضين رئيسيين، أولهما: دفع الجيش الذي يسيطر عليه الامير سلطان للاخفاق امام الحوثيين بصورة تسمح للملك والنائب الثاني بالتدخل وإعادة تشكيله على نحو ينقل اليهما ارتباطاته وولاءه، وثانيهما: اقصاء الامير خالد بن سلطان مساعد وزير الدفاع الذي يعد ذراع أبيه اليمنى والمسؤول التنفيذي عن القوات المسلحة.
في ظروف وأوضاع غامضة، كان الاخفاق حليف الجيش السعودي في مواجهة الحوثيين الذين حققوا انتصارات ميدانية مذهلة.
حينها أدرك الامير سلطان ان وجوده في مدينة اغادير المغربية قد يتحول في اي لحظة الى وجود دائم على طريقة (المنفى الاختياري)، إذ بات واضحاً لديه ان تهديداً وجودياً وشيكاً أضحى يستهدف الاستيلاء على حصنه المنيع وخطه الدفاعي الأخير (القوات المسلحة).
قبل وصول مخطط الاستيلاء مرحلته الأخيرة، كان الأمير سلطان يحظى باستقبال اسطوري في مطار الرياض من قبل رموز العائلة المالكة واعيان الشعب السعودي، لتتسبب عودته (المفاجئة) المترافقة مع حملة اعلامية صاخبة، في ايقاف العد التنازلي للمخطط الاستيلائي.
سلطان يقلب الطاولة رغم ان تطورات الصراع حققت جزءاً كبيراً من التطلعات الرئاسية اليمنية في تغيير السياسات السعودية الإيذائية تجاه اليمن، إلا ان مفعولها لم يدم طويلاً.
فأجندة الأمير العائد من أغادير، كانت حافلة بالترتيبات المضادة على طريقة (رد الصاع بصاعين).
تركيز الأمير سلطان بدا واضحاً على كيفية إنهاء الاشتباك القتالي بين جيشه وبين الحوثيين كخطوة تمهيدية على طريق عقد صفقة شاملة تضمن عدم تجدد أي تهديد حوثي مستقبلي للمملكة.
استخدم الامير سلطان صلاحياته كقائد عام للجيش ووزير للدفاع والطيران، بهدف ايقاف الحرب، حقناً للدماء كما جاء على لسان الامير في كلمة القاها على هامش اجتماع لبعض المسؤولين اكد فيها اهمية السلام منتقداً بشدة اللجوء للعنف. ومما قاله الامير: نحن أخوة يمنيين وسعوديين، والحرب بين الأخوة لا تجوز ابداً.
استعان الامير بعدد من مشائخ اليمن كأمين العكيمي وحسين الاحمر لإستكمال الصفقة التي تضمنت تخصيص اعتمادات مالية دائمة للحوثيين بموازاة دفع مبالغ عاجلة كتعويضات لما أحدثه الطيران السعودي من تدمير وخسائر في الارواح والممتلكات. لقد كانت الصفقة السلطانية الحوثية ضربةً موجعة للترتيبات الثلاثية، إذ أضحى الرئيس وحيداً (بمعزل عن اسناد الملك والنائب الثاني) في مواجهة الترتيبات السلطانية المضادة. وهو ما جعله يتخذ قراراً مماثلاً بإيقاف الحرب وإبرام صفقة موازية لتحقيق ذلك عملياً.
أميركا تتدخل لإعادة سلطان عادت السياسات السعودية التقليدية إزاء اليمن لتطل برأسها مجدداً. فسرعان ما استعاد الامير سلطان إدارته للملف اليمني، كما ان تحركاته لم تجابه بأي اعتراض من جانب الملك والنائب الثاني وهو ما برره البعض بأمرين، الأول: تدخل الولايات المتحدة الاميركية وإصرارها على عودة سلطان لمزاولة أعماله الكاملة كولي للعهد حفاظاً على استقرار البلاد، والثاني: حجم الفرحة الشعبية العارمة بعودته من مدينة اغادير التي جسدت مقياساً حقيقياً يترجم شعبيته الطاغية لدى امراء العائلة المالكة والشعب السعودي عموماً.
منذ عودته، بدا الامير متحمساً جداً لتسديد ضربات انتقامية ضد الرئيس اليمني أولاً وأخويه ثانياً.
لقد عكف الامير على بحث آلية لفصم عرى التحالف بين الملك والرئيس، بما يمكنه من الحصول على تفويض ملكي بالتصرف المطلق في مواجهة ما يعتبرها مؤامرات موجهة من النظام اليمني الحاكم.
حسب مزاعم غير مؤكده، فقد لجأ الامير سلطان لتدبير مخطط مطول جرى تنسيقه بعناية بهدف انتزاع اعتراف تسجيلي من الرئيس اليمني بدعمه للحوثيين في مواجهة المملكة. ومما قيل في هذه المزاعم روايتان، الأولى: تتضمن زعماً بقيام عضو من اعضاء وفد حوثي التقى به الرئيس بتسجيل نص اللقاء الذي حوى اعترافات رئاسية ضمنية بدعم الحوثيين، ليتم بعدها ارسال التسجيل الى الامير سلطان..! والثانية: ما تناقلته مواقع اخبارية يمنية حول تمكن المخابرات السعودية من التقاط مكالمة بين الرئيس والمتحدث باسم الحوثيين محمد عبدالسلام تضمنت تحريضاً رئاسياً للحوثيين ضد الجيش السلطاني السعودي. حسب الروايتين، فالأمير سلطان أطلع الملك على مضمون التسجيل، ورغم ان الملك حسب (الفرضية الأساسية) كان على علم بدعم الرئيس للحوثيين بافتراض ان بينهما تنسيقاً مشتركاً يهدف الى احداث تغييرات في الجيشين السعودي واليمني لانهاء سيطرة كل من سلطان وعلي محسن (كتيار واحد) عليهما، إلا ان الملك -رغم هذا الافتراض- أبدى انزعاجه الشديد من مضمون التسجيل تاركاً للامير سلطان حرية التصرف مع الرئيس والنظام اليمني.
تجميد رواتب اللجنة الخاصة عقب حصوله على التفويض الملكي، استدعى الامير سلطان عدداً من مشائخ اليمن الذين يتقاضون رواتب شهرية ثابتة من اللجنة الخاصة، فذهبت إليه الوفود تباعاً، حيث طلب منهم -حسب ما نشرته مواقع الكترونية- إعلان مواقف صريحة وواضحة ضد ما اسماها محاولات العبث بأمن المملكة. كما اقدم الأمير على اجراء تقييمات لمسميات الموجودين في كشوفات اللجنة الخاصة انتهت باقصاء وتجميد اعتمادات بعض المشائخ المتهمين بالتلاعب والتواطؤ ضد السعودية. من بين الاجراءات الانتقامية ايضاً، قيام الامير بدور محوري في احباط الاتفاق الذي كان إبرامه وشيكاً بين الرئيسين علي عبدالله صالح وحيدر ابوبكر العطاس بهدف تشكيل حكومة وحدة وطنية.
التكتيكات السلطانية لم تقف عند هذا الحد، إذ اقدم على تحركات في ملف الجنوب، كما اوعز لأتباعه في المركز المقدس بالعمل على استنزاف احتياطيات البنك المركزي اليمني من النقد الاجنبي (سحب الدولار من الاسواق اثناء ضخه من البنك) لضرب استقرار العملة اليمنية.
تدابير صالحية دفاعية امام الاصرار السلطاني على تكريس الاجراءات الانتقامية، ووسط صمت الملك والنائب الثاني، لم يجد الرئيس صالح بداً من اتخاذ تدابير دفاعية كرد فعل بديهي.
أبرز تلك التدابير تمثلت بإعادة تفعيل عضوية اليمن في كتلة الممانعة العربية بالتوازي مع رفع مستوى التنسيق مع كل من قطر وليبيا. من ابرز التدابير الصالحية ايضاً، إعادة الوساطة القطرية لإحتواء التنامي المضطرد في نفوذ وقوة الحوثيين على حساب الحكومة المركزية لاسيما عقب المعلومات التي تُرجح حصولهم على دعم سلطاني يهدف الى زعزعة الاستقرار والسلام ودفع الحوثيين للتمدد باتجاه العاصمة. يمكن اعتبار صفقة الاسلحة التي أبرمها الرئيس مع روسيا الاتحادية (لم يتضح مصيرها بعد) تدبيراً رئاسياً احترازياً ذا طابع دفاعي لمواجهة اي سيناريوهات محتملة.
إجراءات التقارب مع أطراف في مركز الحكم المقدس وبعض رموز المؤسسات التقليدية يمكن ادراجه ايضاً ضمن قائمة التدابير الرئاسية الدفاعية.
نجاح التكتيكات السلطانية إذن لقد عاد سلطان مؤخراً إلى اغادير قرير العين بعد نجاحه في تحويل العلاقة التحالفية الثنائية الرابطة بين الملك والرئيس الى مرحلة التوتير وانعدام الثقة.
نجاح التكتيكات السلطانية لم يقف عند هذا الحد، حيث استطاع الرجل بترتيباته واغداقه للأموال على الحوثيين ان يضمن أمن بلاده وجيشه من اي خطر او تهديد حوثي محتمل بموازاة تحويل ذلك الخطر والتهديد إلى صدر النظام الحاكم في صنعاء. ورغم عودة التوتر بين الملك وولي عهده، إثر مغادرة الامير سلطان الى مدينة اغادير مرة اخرى لممارسة فصل جديد من الاعتكاف التكتيكي، إلا ان ذلك التوتر -هذه المرة- لم يكن ذا عائد نفعي على النظام اليمني، فالعلاقات التحالفية الثلاثية بين كل من سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والرئيس علي عبدالله صالح، والعقيد معمر القذافي، أضحت تشكل عائقاً يحول دون عودة المياة الى مجاريها بين القصرين الملكي والجمهوري.
يظن السعوديون عموماً والملك خصوصاً بان التحالف الثلاثي الفائت ذكره يتغيا ايذاء المملكة بصورة أو بأخرى، وبالتالي ليس في وسع الرئيس -من وجهة نظر الجناح الملكي- ان كان يتطلع لاستعادة الثقة مع الملك سوى ان يعمل على ايقاف الوساطة القطرية وتعليق عضويته في كتلة الممانعة وخفض مستوى التنسيق مع كل من امير قطر وزعيم ليبيا، وهي اجراءات لا يمكن للرئيس ان يقوم بها على الاقل في الوقت الراهن.
ثمة زعم من المهم ايراده هنا، مفاده ان الملك حاول تشجيع الرئيس على انهاء الوساطة القطرية مقابل اسناد مالي سعودي عاجل قدرته صحيفة الاهالي اليمنية بمليار دولار لايقاف تدهور العملة اليمنية امام الدولار.
حسب هذا الزعم، فالرئيس لم يف بوعوده للملك، وهو ما جعله يقتنع بضرورة اعتماد السياسات السلطانية الهادفة الى تقويض سلطة الرئيس صالح وتعزيز نفوذ الشيخ حسين الاحمر الذي تصنفه السياسات السلطانية كأبرز المؤهلين لحكم اليمن بعد الرئيس صالح!
وماذا بعد رغم تغلغله إلى عمق الخلافات بين الاجنحة المتصارعة في مملكة آل سعود، ومحاولاته المتعددة لتوظيفها، لم يفلح الرئيس والنظام اليمني في احداث تغييرات حقيقية ودائمة على بروتوكولات حكماء السعودية في التعاطي مع اليمن، بل أن تدخلاته على العكس من ذلك تسببت -وفق ما بعاليه- في مضاعفة الإجراءات الانتقامية ضد اليمن شعباً وحكومة.
فحتى وإن بدا لبرهة ان تكتيات الرجل احياناً ما تلعب دوراً في إحداث تحولات ضمنية في السياسات السعودية إزاء اليمن، تظل تلك التحولات جزئية وذات طابع مرحلي.
ان العزف على وتر التباينات السعودية، ومحاولات اذكاء جذوة الخلافات بين الاجنحة المتصارعة، يعد ضرباً من ضروب المراهنة العبثية، إذ مهما بلغت الخلافات بين الامراء، فلن تسمح لها الولايات المتحدة الاميركية بالتطور الى مستويات اقصائية حقيقية لطرف ضد آخر. عبثية تلك المحاولات لا تقف عند حد عدم قدرتها على تحقيق أهدافها فحسب، إذ ان كلفة الإجراءات الانتقامية تبدو باهضة جداً بصورة تجعل القيام بتلك المحاولات محض مغامرات غير محسوبة العواقب.
لاجدال في ان النظام الحالي يعد سبباً أصيلاً من مسببات التعاطي الدوني والسياسات الايذائية تجاه اليمن كنتاج لتنازلاته وألاعيبة المتأرجحة بين الندية والتبعية. فهو يحاول تقمص دوراً ندياً لحظياً، ليعود الى التبعية سريعاً مقابل بضع طائرات من الأموال والمساعدات. مع هذا فالتفكير البدائي السعودي إزاء اليمن المتخلق كنتاج لوصية المؤسس المشؤومة يظل ايضاً هو العامل الحاسم في النهج السعودي تجاه اليمنيين. بالتالي ليس في وسع اي قيادة سياسية يمنية قادمة إجراء أي تغييرات في البروتوكولات السعودية مهما كان حجم التنازلات التي ستقدمها.
ان التعاطي مع السعودية يجب ان لا يمر عبر بوابة التنازلات، هكذا حققت قطر دوراً ندياً حقيقياً في مواجهة الجارة التوسعية، وهكذا استطاعت سوريا ان تجبرها على ايقاف العبث بالملف اللبناني، وهكذا يمكن لليمن ان يرغمها ايضاً على تغيير سياساتها الايذائية الاستعلائية والغاء بروتوكولاتها المؤامراتية.
لكن هل نحن قادرون على هذا..؟! في ظل النظام الحالي سيظل الأمر -رغم كل التكتيكات- عصياً على التحقق وكفى..!