صنائع المعروف تقي مصارع السوء (1)
يحكي القاضي محمد بن إسماعيل العمراني :-
كان الحاج محمد البليلي من كبار تجار صنعاء في أيام استيلاء الأتراك على صنعاء ، بل كان كبير التجّار ومن المستشارين للدوة العثمانيّة ، وكان الإمام يحيى حميد الدين مازال في القفلة ، ولم يستول على صنعاء ،وكان البليلي يُرسل بالزكاة الى الإمام يحيى حميد الدّين سراً بدون علم الأتراك ،ولو علموا بذالك لا عتبروه خائناً لهم , وفي أحد الأيام كان الشّيخ محمّد البليلي جالساَ مع أصحابه ومُحبيه وفي جيبوبه ورقتان ، ورقة عبارة عن سند من الإمام يحيى حميد الدين بتسليم الزكاة وورقة فيها حسابه المالي مع التّرك ؛ لأن البليلي كان يورد للاتراك ما يحتاجونه من المواد الغذائية ، وقد كتب ماله من الفلوس عند التّرك في هذه الورقة وأراد أن يُرسل بها رسولاُ إلي الوالي التركي في صنعاء , وفعلا أهرج الورقة من جيبة – ظناَ أنَها ورقة الحساب بينه وبين التَرك – وأرسلها مع احد أتباعه علي الوالي ، وبقي البليلي واقفاً في المجلس فطلب أصحابه منه أن يجلس ، فقال : لا ؛ لأنّ في جيبي ورقة خطيرة لو علم بها التّرك لأهلكوني ، سأضعها في الخزانة أولاً ، ليطمان قلبي ، وأخرج الورقة من جيبه ، قصُعق حينما وجد أنّه قد أرسل ( سند الزّكاة ) بدلاً من ( ورقة الحساب المالي) ، وصارح أصحابه بما حدث ، فاستردعوا ، وكلهم توقعوا أن يقع شر بالبليلي ، فما كان من البليلي إلا أن أخرج ( 500 ريال فرانصة ) ، وطلب من اولاده أن يخرجوا فيتصدّقوا بها كلها على العجائزِ والأرامل ِ والمستورين عسى أن يدفع الله بها عنه ما يتوقع من شر الوالي التّركي ، ولم تمر دقائق إلا وقد جاء رسول من الوالي التركي يطلب حضور البليلي عنده حالا، فخرج البليلي ، وهو سيودّع أهله وأصحابه ويسترجع ويؤكد عليهم في إخراج الصّدقة ، وركب فرسه وذهب ليُقابل الوالي وليس في ذهنه ما يرد أو يعتذر به عند الوالي ، ودخل البليلي على الوالي التركي ، والوالي يشتاط عضبًا وحقداً عليه ، فما إن دخل الحاج محمد البليلي صاح الوالي التركي : هكذا اتّضحت حقيقتك يا بابليلي تتظاهر بأنك معنا ، وتراسل ابن حميد الدين سراً ، الآن ظهرت خيانتك وغشك وخداعك ، ولعُبك على الحبال كلها .
ووقع في قلب الحاج محمّد البليلي أن يقول : سبحان الله ! أتظن أيها الوالي أنني سكران حتّى أُرسل عليك السند هكذا .. لقد أرسلته لأعلمك كيف أخسر من أجل الدولة العثمانيّة ؟ فقال الوالي : كيف ؟ فقال البليلي : أنما ما هادنت ابن حميد الدين وأرسلت إليه هذه الفلوس إلا من أجلكم .فقال الوالي : عجيب .. وضّح لي ما تُريد . فقال البليلي : أنا إذا لم أُرسل هذه الفلوس سيُرسل ابن حميد الدين من يَلقي بكيس البارود إلى وسط بيتي ، فإذا اتفجر أخربَ البيت ، وليس خوفي على البيت ، فهناك غيره وأستطيع أن ُأهاجر إلي أبن حميد الدين ، فأنا ابن صنعاء وهو أبن صنعاء .
ولكن أنا همّي عليكم إذا فُجر البيت ، ستنشر الصحف في استطنبول أنّ الترك لم يستطيعوا السّيطرة على الوضع في اليمن ، ولا حتَّي في العاصمة صنعاء ..اتقول لي هذا الكلام وأنا عاديت النّاس من اجلكم ، عاديت حميد الدين وأهل صنعاء محبّة ووفاء لكم ، أهكذا تتعاملون مع رجالكم .. كل ما في الأمر أني لم أجد معي فلوساً ، فارسلت إليكم هذا الصك اّلذي دفعتُه من أجلكم ، من أجل أن تُعطوني ما دفعت .
فدُهش الوالي ولم يدر ما يقول، ثم أخذ يعتذر ويتأسف ، فتشجع البليلي ، وقال : لا يكفي هذا أعطني الخمسمائة ريال الفرانصي ، فاخرجها الوالي من الخزينة وأعطاها للبليلي ، فعاد البليلي إلى بيته وهو يحمد الله ويهلله ويكبره ، ووجد أهله وأصحابه في غاية القلق والانزعاج ، فطمأنهم وحكى لهم ما وقع بينه وبين الوالي التركي ، وقال : دفع الله عنّي بالصّدقة ، وعاد إلينا ما أخرجناه وربحنا الأجر والثّواب !.